الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك وَلنذْكُرْ منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتاب "الأحكام" فالله المستعان. وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك. وقد روى أبو داود وابن ماجة، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العِلْمُ ثلاثة، وما سِوَى ذلك فهو فَضْلٌ: آية مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فَريضةٌ عَادَلةٌ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة، تَعلَّمُوا الفرائِضَ وعلِّموهُ فإنه نصْف العلم، وهو يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْتزَع من أمتي". رواه ابن ماجة، وفي إسناده ضعف. وقد رُوي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر. قال [سفيان] ابن عيينة: إنما سَمَّى الفرائض نصفَ العلم؛ لأنه يبتلى به الناس كلهم. وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام: أن ابن جُرَيج أخبرهم قال: أخبرني ابن المُنْكدِر، عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمَةَ ماشيين، فوجَدَني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رَش عَلَيَّ، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}. وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج به، ورواه الجماعةُ كُلّهم من حديث سفيان بن عُيَينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر. حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية: قال الإمام أحمد: حَدّثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله -هو ابن عَمْرو الرقيّ -عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الرَّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أحُد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يَدَعْ لهما مالا ولا يُنْكَحَان إلا ولهما مال. قال: فقال: "يَقْضِي اللَّهُ في ذلك". قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعْطِ ابْنَتي سعد الثلثين، وأُمُّهُمَا الثُّمُنَ، وما بقي فهو لك". وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عُقَيل، به. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري، رحمه الله، فإنه ذكره هاهنا. والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم. فقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} أي: يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه الأنثى. وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح.وقد رأى امرأة من السَّبْي تدور على ولدها، فلما وجدته أخذته فألْصَقَتْه بصَدْرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتَروْن هذهِ طارحةَ ولدها في النار وهي تَقْدِرُ على ذلك؟ " قالوا: لا يا رسول الله: قال: "فَوَاللهِ للَّهُ أًرْحَمُ بعبادِهِ من هذه بِوَلَدِهَا". وقال البخاري هاهنا: حدثنا محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن عَطاء، عن ابن عباس قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع. وقال العَوفي، عن ابن عباس قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فَرَضَ الله فيها ما فرض، للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تُعطَى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف. ويعطى الغلام الصغير. وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة.. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم: يا رسول الله، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفَرَس، ولا تقاتل القوم ونُعطِي الصبي الميراث وليس يُغني شيئا.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا. وقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قال بعض الناس: قوله: {فوق} زائدة وتقديره: فإن كنّ نساء اثنتين كما في قوله [تعالى] {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ} [الأنفال:12] وهذا غير مُسَلَّم لا هنا ولا هناك؛ فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع، ثم قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثلثا ما ترك. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضا فإنه قال: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فلو كان للبنتين النصف [أيضا] لنص عليه، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم. وقوله: {وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ] إلى آخره، الأبوان لهما في الميراث أحوال: أحدها: أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له -والحالة هذه -بين هذه الفرض والتعصيب. الحال الثاني: أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم -والحالة هذه -الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم، وهو الثلثان، فلو كان معهما -والحالة هذه -زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم اختلف العلماء: ما تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه وهو قول عمر وعثمان، وأصح الروايتين عن علي. وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء -رحمهم الله. والقول الثاني: أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ} فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا. وهو قول ابن عباس. وروي عن علي، ومعاذ بن جبل، نحوه. وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه "الإيجاز في علم الفرائض". وهذا فيه نظر، بل هو ضعيف؛ لأن ظاهر الآية إنما هو [ما] إذا استبد بجميع التركة، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة، فتأخذ ثلثه، كما تقدم. والقول الثالث: أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي؛ لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان. ويحكى هذا عن محمد بن سيرين، رحمه الله، وهو مركب من القولين الأولين، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا. والصحيح الأول، والله أعلم. والحال الثالث من أحوال الأبوين: وهو اجتماعهما مع الإخوة، وسواء كانوا من الأبوين، أو منالأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شُعْبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يَردان الأم عن الثلث، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة. فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شُعْبَة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه. وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه أنه قال: الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جُزءًا على حدة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ} أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يَرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم. وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم، وهذا قول شاذ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال: حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ابن طاوس، عن أبيه عن ابن عباس، قال: السدس الذي حَجَبَتْه الإخوة لأم لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم. ثم قال ابن جرير: وهذا قول مخالف لجميع الأمة، وقد حدثني يونس، أخبرنا سفيان، أخبرنا عَمْرو، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أجمع العلماء سلفًا وخلفًا: أن الدَّيْن مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فَحْوَى الآية الكريمة. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير، من حديث أبي إسحاق، عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] قال: إنكم تقرءون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم. قلت: لكن كان حافظًا للفرائض معتنياً بها وبالحساب فالله أعلم. وقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} أي: إنما فرضنا للآباء وللأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين الوصية، كما تقدم عن ابن عباس، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي -أو الأخروي أو هما -من أبيه ما لا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس؛ فلهذا قال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} أي: كأن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر؛ فلهذا فرضنا لهذا ولهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، والله أعلم. وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي: [من] هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض -هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} يقول تعالى: ولكم -أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [وصية] يوصين بها أو دين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب. ثم قال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ] إلخ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه. وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} إلخ، الكلام عليه كما تقدم. وقوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الكلالة: مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق: أنه سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر بن الخطاب قال: إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. رواه ابن جرير وغيره. وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب، فسمعته يقول: القول ما قلت، وما قلت وما قلت. قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود، وصح عن غير وجه عن عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي، والحسن البصري، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم. وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم. وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان: وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه لا ولد له. والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد. وقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي: من أم، كما هو في قراءة بعض السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه، {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه، أحدها: أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم. الثاني: أن ذكرهم وأنثاهم سواء. الثالث: أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب، ولا جد، ولا ولد، ولا ولد ابن. الرابع: أنهم لا يزادون على الثلث، وإن كثر ذكورهم وإناثهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس، حدثنا ابن وَهْب، أخبرنا يونس، عن الزهري قال: قضى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم، للذكر مثل الأنثى قال محمد بن شهاب الزهري: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذه الآية التي قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}. واختلف العلماء في المسألة المشتركة، وهي: زوج، وأم أو جدة، واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين. فعلى قول الجمهور: للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم. وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأعطى الزوج النصف، والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم، فقال له أولاد الأبوين: يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم. وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، رضي الله عنهم. وبه يقول سعيد بن المسيب، وشريح القاضي، ومسروق، وطاوس، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي، وإسحاق بن راهويه. وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شيء لأولاد الأبوين، والحالة هذه، لأنهم عصبة. وقال وَكِيع بن الجراح: لم يختلف عنه في ذلك، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، وهو المشهور عن ابن عباس، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وزُفَر بن الهُذيل، والإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد، وأبي ثور، وداود بن علي الظاهري، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي، رحمه الله، في كتابه "الإيجاز". وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} أي: لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي، حدثنا عُمَر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر". وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة، قال أبو القاسم ابن عساكر: ويعرف بمفتي المساكين. وروى عنه غير واحد من الأئمة. وقال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ. وقال علي بن المديني: هو مجهول لا أعرفه. لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر، عن علي بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، موقوفًا: "الإضرار في الوصية من الكبائر". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفا وفي بعضها: ويقرأ ابن عباس: {غَيْرَ مُضَارٍّ} قال ابن جريج والصحيح الموقوف. ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث: هل هو صحيح أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ". وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحمد بن حنبل، والقول القديم للشافعي، رحمهم الله، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس، وعطاء، والحسن، وعمر بن عبد العزيز. وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه. واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال: وقال بعض الناس: لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظنَّ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث". وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فلم يخص وارثًا ولا غيره. انتهى ما ذكره. فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [ثم قال الله]
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فيها، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أشعث بن عبد الله، عن شَهْر ابن حَوْشَب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرَّجُلَ لَيَعْمَل بعمل أهل الخير سبعين سَنةً، فإذا أوْصَى حَافَ في وصيته، فيختم بشر عمله، فيدخل النار؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة". قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ}. [و] قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه: حدثنا عَبْدَة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد، حدثنا [نصر] بن علي الحُدَّاني، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني، حدثني شَهْرُ بن حَوشَب: أن أبا هريرة حدثه: أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فَيُضَاران في الوصية، فتجب لهما النار" وقال: قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ: {[وَ] ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحُدَّاني به، وقال الترمذي: حسن غريب، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يعني: الزنا {مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس: كان الحكم كذلك، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم. وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سُرِّيَ عنه قال: "خُذُوا عَنِّي، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب، والبِكْرُ بالبكرِ، الثيب جَلْدُ مائة، ورَجْمٌ بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ". وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه، فلما أنزلت: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [و] ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا خذوا، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة". وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا الفضل بن دَلْهَم، عن الحسن، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث، عن سلمة بن المُحَبَّق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم، ثم قال: وليس هو بالحافظ، كان قصابًا بواسط. حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عباس بن حمدان، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عمرو بن عبد الغفار، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ، والشَّيْخانِ يُرجَمان". هذا حديث غريب من هذا الوجه. وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة، عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء". وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين، ولم يجلدهم قبل ذلك، فدل على أن الجلد ليس بحتم، بل هو منسوخ على قولهم، والله أعلم. وقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} أي: واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير وغيرهما: أي بالشتم والتعيير، والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم. وقال عكرمة، وعطاء، والحسن، وعبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي: نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى، وكأنه يريد اللواط، والله أعلم. وقد روى أهل السنن، من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ" وقوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه، وصَلُحت أعمالهما وحسنت {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أي: لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد ثبت في الصحيحين "إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها" أي: ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يقول تعالى: إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [لقبض] روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة. قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. رواه ابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره. وقال ابن جُرَيْج: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها. قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه. وقال أبو صالح عن ابن عباس: مِنْ جَهالته عمل السوء. وقال علي بن أبي طَلْحَة، عن ابن عباس {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت، وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته. وهو مروى عن ابن عباس. وقال الحسن البصري: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ما لم يُغَرْغر. وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب. ذكر الأحاديث في ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عَيَّاش وعصام بن خالد، قالا حدثنا ابن ثَوْبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نُفَيْر عن ابن عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر". [و] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، به وقال الترمذي: حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه: عن عبد الله بن عَمْرو. وهو وَهْم، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب. حديث آخر عن ابن عُمَر: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: سمعت عبد الله بن عُمَر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه، وأدْنَى من ذلك، وقَبْل موته بيوم وساعة، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه". حديث آخر: قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، أخبرنا إبراهيم بن ميمون، أخبرني رجل من مِلْحَان يقال له: أيوب -قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت له: إنما قال الله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقال: إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، وأبو عمر الحَوْضي، وأبو عامر العَقدي، عن شعبة. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حُسين بن محمد، حدثنا محمد بن مطَرَّف، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ". فقال الآخر: أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم" فقال الثالث: أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو". قال الرابع: أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله [تعالى] يقبل توبة العبد ما لم يُغَرغر بنفسه". وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني فذكر قريبًا منه. حديث آخر: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا عمران بن عبد الرحيم، حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عَوْف، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ". أحاديث في ذلك مرسلة: قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن عَوْف، عن الحسن قال: بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ" هذا مرسل حسن. عن الحسن البصري، رحمه الله. آخر: قال ابن جرير أيضًا، رحمه الله: حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بشير بن كعب؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ". وحدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر مثله. أثر آخر: قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة، فحدث أبو قِلابة فقال: إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال: وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح. فقال الله: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. وقد ورد هذا في حديث مرفوع، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال إبليس: وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أزال أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني". فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة، فإن توبته مقبولة [منه] ؛ ولهذا قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم -فلا توبة متقبلة حينئذ، ولات حين مناص؛ ولهذا قال [تعالى] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وهذا كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] الآيتين،[غافر:84، 85] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [تعالى] {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الآية [الأنعام:158]. وقوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [الآية] يعني: أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ذهبا]. قال ابن عباس، وأبو العالية، والربيع بن أنس: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قالوا: نزلت في أهل الشرك. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال: حدثني أبي، عن مكحول: أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان: أن أبا ذر حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه -أو يغفر لعبده- ما لم يَقَعِ الحِجَاب". قيل: وما وُقُوع الحجاب؟ قال: "أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة" ؛ ولهذا قال [تعالى] {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: موجعا شديدا مقيما.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} قال البخاري: حدثنا محمد بن مُقَاتل، حدثنا أسْبَاط بن محمد، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة، عن ابن عباس -قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السَّوَائي، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك. هكذا رواه البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن مَرْدُويه، وابن أبي حاتم، من حديث أبي إسحاق الشيباني -واسمه سليمان بن أبي سليمان- عن عكرمة، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء، كوفي أعمى- كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي، حدثني علي بن حُسَين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك، أي نهى عن ذلك. تفرد به أبو داود وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو ذلك، فقال وَكِيع عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مِقْسم، عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا، كان أحق بها، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. وقال زيد بن أسلم في الآية [{لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}] كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله، وكان يعضُلها حتى يرثها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا علي بن المنذر، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل، به. ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم، فنزلت: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته، ينكحها إن شاء، إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. قال ابن جريج: وقال عكرمة: نزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت، فجنَحَ عليها ابنُه، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أنا وَرِثْتُ زوجي، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح، فنزلت هذه الآية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ، فأنزل الله: [تعالى] {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. وقال مجاهد في الآية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته، فيتزوجها أو يزوجها ابنه. رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: ورُوِيَ عن الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وأبي مِجْلَز، والضحاك، والزهري، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك. قلت: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم. وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} يقول: ولا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يعني: الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها لتفتدي. وكذا قال الضحاك، وقتادة [وغير واحد] واختاره ابن جرير. وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرٌ قال: أخبرني سِمَاك بن الفضل، عن ابن البَيْلمَاني قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمرالإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} في الجاهلية {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} في الإسلام. وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشَّعْبِيُّ، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومجاهد، وعِكْرَمَة، وعَطاء الخراسانيّ، والضَّحَّاك، وأبو قِلابةَ، وأبو صالح، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا، يعني: إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ] الآية [البقرة:229]. وقال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: الفاحشة المبينة: النُّشوز والعِصْيان. واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه: الزنا، والعصيان، والنشوز، وبَذاء اللسان، وغير ذلك. يعني: أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد، والله أعلم، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [رضي الله عنهما] في قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عن ذلك.قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام. قال عبد الرحمن بن زيد: كان العَضْل في قريش بمكة، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تُزوّج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عَضلها. قال: فهذا قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية. وقال مجاهد في قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: "هذِهِ بتلْك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب "الأحكام"، ولله الحمد. وقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] أي: فعَسَى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. كما قال ابن عباس في هذه الآية: هو أن يَعْطف عليها، فيرزقَ منها ولدًا. ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح: "لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر". وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً، ولو كان قنطارا من مال. وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا. وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سِيرين، قال: نُبِّئْت عن أبي العَجْفَاء السُّلميِّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تُغْلُوا في صَداق النساء، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدنيا أو تَقْوَى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة، وإن كان الرجل ليُبْتَلَى بصَدُقَةِ امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كَلِفْتُ إليك عَلَق القِرْبة، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق، عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء -واسمه هرم ابن مُسَيب البصري- وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. طريق أخرى عن عمر: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال: أيها الناس، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنماالصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فَلا أعرفَنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نَهَيْتَ الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] [النساء: 20] قال: فقال: اللهم غَفْرًا، كُلُّ الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي. طريق أخرى: قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: "وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب". قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: "فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا" فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. طريق أخرى: عن عمر فيها انقطاع: قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة -يعني يزيد ابن الحصين الحارثي -فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة- من صُفَّة النساء طويلة، في أنفها فَطَس -: ما ذاك لك. قال: ولم؟ قالت: لأن الله [تعالى] قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية. فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ. ولهذا قال [الله] منكرا: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي: وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك. قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغير واحد: يعني بذلك الجماع. وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب" ثلاثًا. فقال الرجل: يا رسول الله، مالي -يعني: ما أصدقها -قال: "لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها. الأخرى: سوء حفظ قيس بن الربيع". وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقضى لها بالصداق وفرَق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: "الولد عبد لك". فالصداق في مقابلة البُضْع، ولهذا قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وقوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} روي عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير: أن المراد بذلك العَقْد. وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [غَلِيظًا] قال: قوله: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والضحاك والسدي- نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فإن "كلمة الله" هي التشهد في الخطبة. قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له: جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي. رواه ابن أبي حاتم. وفي صحيح مسلم، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها: "واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله". وقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا] يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعذظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار، عن عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار قال: لما توفي أبو قَيْس -يعني ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنَه قيس امرأته، فقالت: إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا قيس تُوفِّي. فقال: "خيرا". ثم قالت: إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولدًا، فما ترى؟ فقال لها: "ارجعي إلى بيتك". قال: فنزلت هذه الآية {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [إِلا مَا قَدْ سَلَفَ] الآية.وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا، حسين، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرمة في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [الآية] قال: نزلت في أبي قيس ابن الأسلت، خُلِّفَ على أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت الأسلت أبيه، وفي الأسود بن خَلَفَ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبيه خَلَف، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند أمية بن خَلَف، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية. وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية؛ ولهذا قال: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} كما قال {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} قال: وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة، تزوج بامرأة أبيه، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ". قال: فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم، فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قُرَاد، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} وهكذا قال عطاء وقتادة. ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، والله أعلم. على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة، مُبَشَّع غاية التبشع ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا} ولهذا قال [تعالى] {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وقال {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء:32]فزاد هاهنا: {وَمَقْتًا} أي: بُغْضًا، أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة؛ لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب [للأمة] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه. وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله: {ومقتا} أي: يمقت الله عليه {وَسَاءَ سَبِيلا} أي: وبئس طريقا لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل، ويصير ماله فيئا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب، عن خاله أبي بردة -وفي رواية: ابن عمر- وفي رواية: عن عمه: أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا أشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم، أين بعثك النبي [صلى الله عليه وسلم] ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
مسألة: وقد أجمع العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية. فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك. قد روى [الحافظ] ابن عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب. فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول: هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثم قال: لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي -وكان فقيها- فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة، فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له. ثم قال: نعم ما رأيت. ثم قال: ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري، فدعوته، وكان آدم شديد الأدمة، فقال: دونك هذه، بَيض بها ولدك. قال: و[قد] كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [بن أبي طالب] رضي الله عنه.
|